تعليم التفكير الناقد للأطفال

التفكير الناقد جوهر عملية التفكير وأحد أعلى المراتب فيه، وقد عرفه العلماء تعريفات عديدة تتفق على أنه فن تحليل وتقييم التفكير نفسه بهدف تحسينه فيرتقي إلى التساؤل وتفحص الأفكار وإسنادها إلى معايير محددة قبل التسليم بها وقبولها. وتعلم التفكير الناقد ضروري للصغار وللكبار على حدٍ سواء فلقد صُنفت هذه المهارة ضمن مهارات القرن الحادي والعشرين والتي يتميز بها البشر عن الآلات في سوق العمل.

صناعة الناقد الصغير


التفكير الناقد فن يجب أن يغرسه المربون والمعلمون في عقول صغارهم وطلابهم الخصيبة، كبذرة أساسية لازدهار شخصياتهم. فالتفكير الناقد "ضرورة تربوية لا غني عنها"، هذا ما أشار إليه الدكتور محمد عبد السلام في كتابه "مهارات التفكير الناقد" وذلك لعدة أسباب أقرها تربويون وباحثون في علم النفس المعرفي أهمها أن التفكير الناقد يرتقي بعقل الطفل خلال عملية اكتساب المعرفة من الخمول إلى النشاط، فيجعل استيعابه للمعلومات أفضل وأعمق لأنه يعتمد على التساؤل، فإذا واجه الطفل مشكلةً ما وتعلم التساؤل بطريقة صحيحة يتعزز فهمه للمشكلة ومن ثم يستطيع حلها.
ومثال على ذلك ما ذكره جون لانغرر في كتابه المُترجم بعنوان " لنعلم أطفالنا حلاوة التفكير" فإذا كان الطفل يعاني من صعوبة هجاء كلمة جديدة، فإن عليه تعلُم طرح تساؤلات مثل:
- ما الاشتقاقات الموجودة في الكلمة؟
- بماذا تبدأ وتنتهي الكلمة؟
- هل هناك أجزاء من الكلمة قد يصعب حفظها؟
- هل هناك أجزاء تلفظ بغير ما تكتب؟
- ما معنى الكلمة؟
- هل تشبه هذه الكلمة أي كلمة أخرى أعرفها؟
- هل يمكن تصوير هذه الكلمة بطريقة ما؟
بهذه الطريقة يكتسب الطفل القدرة على تحديد المشكلة وتفسيرها والقدرة على التعامل معها، هذا فضلًا عن استيعابه الأعمق والأفضل للكلمة نفسها.
وبممارسة التفكير الناقد يكتسب الطفل القدرة على التمييز بين الحقائق والآراء والمغالطات والادعاءات، ويقيم الدلائل والحجة القوية والضعيفة، ويصنف المعلومات الأساسية والثانوية، ويكتسب التعليلات الصحيحة والمنطقية للأحداث وللمعلومات التي يتلقاها فيراقب تفكيره ويحلله ويضبطه ليكون دقيقا وصحيحًا، فلا تستهويه الإشاعات والضلالات والرسائل الموجهة.
وبالتفكير الناقد يكتسب الطفل القدرة على التنبؤ وصياغة الفرضيات وتحديد ما إذا كانت المعلومات التي لديه حول موضوع ما كافية أم لا ومدى دقتها كذلك. ونذكر هنا ما أشار إليه الدكتور محمد أبو موسى في ورقته البحثية "منهج علمائنا في بناء المعرفة"، بأن إعمال العقل فيما نقرأه ونتعلمه يرتقي بالإنسان من تلقي العلم إلى صناعته، ولقد استدل على ذلك بقصة أبي عمر الجرمي الذي تعلم الفقه والفتيا من كتاب سيبويه في النحو، وهذا لأن الجرمي لم يتلق المادة العلمية للكتاب فحسب، بل تعلم منهج سيبويه في استخراج المعرفة.

تعليم التفكير الناقد باللعب


الطفولة مهادُ المُفكرِ الناقد، فالطفل يستطيع أن يتعلم مبادئ التفكير الناقد منذ سنواته الأولى، وبالتدريب يتمكن من هذه المهارة ذلك لأن التفكير- كما أشار الدكتور حاتم جاسم عزيز في كتابه " المنهج والتفكير"- مثل العضلات يحتاج إلى قدرٍ كافٍ من التمرين حتى نحصل على نتيجة مرضية. وتستطيع تعليم طفلك التفكير الناقد من سن ثلاث سنوات عن طريق تطبيق منهج المباشرة والحواس الذي يعتمد على التجريب والاكتشاف والممارسة. يقول الدكتور عبد الأمير شمس الدين في كتابه " الفكر التربوي عند ابن خلدون وابن الأزرق" أن عقل الطفل صفحة بيضاء وحواسه هي منافذه على العالم حوله التي من خلالها يتصل بالعالم ويتعرف عليه. وأنسب الأنشطة التي يتعلم بها الطفل في هذه المرحلة العمرية، لذا فمن المفيد الاستفادة من الألعاب التي تساعد في نمو عقل الأطفال دون الست سنوات بطريقة بسيطة وسليمة وتعزز عندهم التفكير الناقد. فيما يلي أمثلة لبعض هذه الأنشطة والألعاب:

أولًا، في كتابها The Montessori Method ذكرت منتسوري لعبة الاسطوانات الخشبية التي تتباين أبعادها ومع هذه الاسطوانات قاعدة خشبية بها فراغات، كل فراغ صُمم ليُناسب اسطوانة بعينها. في هذه اللعبة يحاول الطفل وضع الاسطوانات في الفراغات فيتعثر حين يضع اسطوانة في غير مكانها فيُجرب وضعها في أخرى حتى يصل إلى الفراغ المناسب. فالخطأ الذي يعترض الطفل أثناء اللعب يلفت انتباهه إلى حقيقة غابت عنه وهي تباين أبعاد الاسطوانات، فبطريقة غير واعية يتعرف إلى المشكلة ومن ثم يحاول حلها عن طريق التجربة، غير أن اكتشافه اختلاف أبعاد الاسطوانات يدفعه إلى الملاحظة والمقارنة وإصدار الأحكام على الأشياء فيلاحظ الأحجام المختلفة للأشياء ويقارن بينها.

ثانيًا، من الألعاب التي تعزز التفكير الناقد عند الطفل في سنواته الأولي لعبة التخمين، ففي هذه اللعبة -كما تشرح الدكتورة أماني دغلاس- تحضر مجموعة من الأشياء المختلفة في الملمس والوزن والحجم والشكل كقطعة حجر أملس صغيرة وكرة تنس ومكعب مع أشياء تصدر أصواتا عند الضغط عليها أو تحريكها كالبطة والشخشيخة، تضعها في كيس قماش ثم تطلب من الطفل وضع يده في الكيس وتحسس الأشياء ليخبرك ماذا أمسك. لعبة التخمين تنمي عند الطفل مهارة التمييز والتقييم والمقارنة، فلا يقول "هذه كرة تنس" إلا إذا كان ملمسها خشن وثقيلة وكروية الشكل تماما، ولا يقول "أمسكت ببطة" إلا إذا ضغط على شيء أصدر صوت البطة. ويمكنك تطبيق الفكرة بطريقة أخرى، فتحضر أطعمة مختلفة المذاق والرائحة وتطلب من الطفل أن يَشم أو يتذوق الطعام ثم يُسميه.

ثالثًا، لعبة التصنيف حيث تضع مجموعة من الأشياء المختلفة أمام الطفل وتطلب منه تصنيفها حسب اللون والشكل والحجم.

رابعًا، لعبة الفزورة فتُحدث صوتا أمام طفلك ثم تطلب منه التفكير في الأشياء التي تُحدث صوتا مشابها أو مماثلا. فتسأله مثلا: "ما الصوت الذي يشبه صوت المطرقة؟" فيُجيب الطفل مثلا: "طرق الباب وصوت دقات الساعة"، وتسأله أيضا فيما تتفق هذه الأصوات وتختلف؟ تنمي هذه اللعبة مهارة التمييز بالإضافة إلى الدقة في جمع المعلومات والقدرة على التصنيف والمقارنة.

البرامج الأكاديمية للتفكير الناقد


وتعليم التفكير الناقد للأطفال لا يقتصر على الألعاب فحسب، بل يتخلل كل المواقف اليومية، ويمكن تدريسه كمنهج للطلاب في المؤسسات التعليمية، فعلى سبيل المثال برنامج "الكورت" للعالم دي بونو والذي يُنصح به لتعليم الأطفال من سن ست سنوات فأكثر، وهو برنامج متكامل يعتمد على التفكير الناقد. ويهدف إلى توسيع إدراك الطفل وتنمية لديه مهارات التفكير الناقد الأساسية، وفيما يلي شرح موجز لهذه المهارات وذكر أمثلة عليها:
المهارة الأولى مهارة معالجة الأفكار أي النظر في إيجابيات أي فكرة وسلبياتها، مثال على ذلك اسأل طفلك وناقش معه إيجابيات صناعة الشبابيك من البلاستيك بدلا من الزجاج وسلبياتها وجوانبها المهمة، فإيجابيات هذه الفكرة مثلًا أن البلاستيك لا ينكسر بسهولة وليس بخطورة الزجاج إذا انكسر، ومن سلبياتها أن البلاستيك أبهظ ثمنا ويخدش بسهولة، والجوانب المهمة أن البلاستيك غير مألوف في صناعة الشبابيك، كما أنه أسهل في التلوين.

والمهارة الثانية مهارة اعتبار جميع العوامل أي النظر في العوامل المرتبطة بأي أمر. ولتحقيق ذلك، وضع دي بونو ثلاث نواحي للبحث عن العوامل: أولها عوامل تؤثر في الفرد نفسه، ثانيها عوامل تؤثر في الآخرين، وثالثها عوامل تؤثر في المجتمع. فمثلا اسأل طفلك عن أهم العوامل التي يجب اعتبارها عند شراء العائلة لسيارة مستعملة، ومقترحاته بخصوص نوع السيارة ولونها وسرعتها وقوة محركها وسعرها ومساحتها الداخلية عوامل مهمة يجب النظر فيها.

أما المهارة الثالثة فتهدف إلى تعليم الطفل التنظير ووضع القوانين، اسأل طفلك إذا أصبح رئيس مدرسة مثلًا، ما القوانين التي سيصر عليها؟ أو إذا كان منظمًا لمسابقة الطفل المثالي، ما القوانين التي سيضعها لتلك المسابقة؟

والمهارة الرابعة مهارة النظر إلى النتائج المنطقية وما يتبعها، فاسأله مثلًا ماذا سيحدث إذا نفد البترول من العالم؟ أو ماذا سيحدث إذا انقطعت الكهرباء عن العالم؟

أما المهارة الخامسة مهارة تحديد الأهداف، الغرض من هذه المهارة ترسيخ معنى الهدف بداخل الطفل فلا تكون أفعاله مجرد رد فعل أو اتباع لعادة ما. فعلى سبيل المثال، اسأله: ما أهداف مدير المدرسة؟ أو ما أهدافك إذا نويت تصميم بيتٍ جديد؟

المهارة السادسة هي مهارة التخطيط، التخطيط هنا كمهارة مستقلة بهدف غرس معنى التخطيط وأهميته وتدريب الطفل عليه، فتعمل جميع تروس عقله على معالجة الأفكار واعتبار جميع العوامل وتحديد الأهداف والنظر إلى النتائج ووضع القوانين في عملية واحدة. ومشاريع التخطيط التي تستطيع تدريب الطفل عليها كثيرة، فمثلا اسأل طفلك أن يبتكر خطة للإمساك بلص يسرق أشياء الناس عند حمام السباحة أو خطة لمنع الناس من اختطاف الطائرات.

المهارة السابعة هي ترتيب الأولويات والتي هي العمود الفقري لجميع مهارات التفكير الناقد، فالعقل يحتاج بعد أن يمر بمعالجة أكبر عدد من الأفكار واعتبار أكبر عدد من العوامل والنظر إلى النتائج جميعها وتحديد كافة الأهداف ووضع القوانين والتخطيط، يحتاج أن ينظر إلى أولوياته لتحقيق "التوازن" في كل من المراحل السابقة.

أما المهارة الثامنة فتهدف إلى تدريب الطفل على النظر في البدائل والاحتمالات، فالمفكر الناقد لا يعرف جمود الفكر ولا يرضى بأولى التفسيرات والقرارات التي وصل إليها، بل يبذل الجهد ويسخر العقل إلى إيجاد احتمالات أخرى لتفسيراته وقراراته، وبعد ذلك إما أن تتغير نظرته الأولى أو يزداد تمسكه بها. وللتدريب على هذه المهارة اطرح على طفلك موقفًا وادعه إلى البحث عن جميع الاحتمالات فمثلًا اسأله: طفل بصحبة أمه في المطعم توقف فجأة عن تناول الطعام وبدأ يصرخ، ما التفسيرات المحتملة لهذا الموقف؟

المهارة التاسعة مهارة صنع القرارات التي هي ثمرة مجموع مهارات التفكير الناقد التي سبق ذكرها. فهذه المهارة تخلق للطفل مساحة للتدريب على مهارات التفكير الناقد من كيفية معالجة الأفكار إلى النظر في البدائل والاحتمالات حتى يصل الطفل إلى قراره.

المهارة العاشرة والأخيرة مهارة اعتبار وجهات نظر الآخرين، فالمفكر الناقد ليس متجمدًا وأنانيًا ينغلق على عقله فقط، بل يحذو حذو نهج رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وشاورهم في الأمر"، فيشاور الآخرين في قراره ورؤيته وتفسيراته لأن اختلاف وجهات نظرهم (الذي يرجع لاختلاف أهدافهم وأولوياتهم والنتائج التي يتوقعونها، إلخ) يساعد في توسيع الإدراك وبالتالي التحسين من جودة التفكير، وقد قال الشاعر: "إذا بلغ الرأي الشورى فاستعن/ بحزم نصيحٍ أو نصيحةِ حازم". فالتدريب على الشورى أمر ضروري بلا شك، ويسعى دي بونو إلى تعليم الأطفال ما هو أبعد من طلب الشورى، وهو ارتداء عباءة الآخر والنظر بعينيه والتفكير بعقله. فمثلا اطرح على طفلك هذا الموقف: أب يمنع ابنه الذي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاما من الخروج مع زملائه في رحلة مدرسية، ثم اسأله عن وجهة نظر كل من الأب والابن.

وتجب الإشارة هنا عزيزي القارئ، إلى أن لكل مهارة من مهارات التفكير الناقد العشر استراتيجيات ومبادئ يراعيها الآباء والمعلمون عند تدريب الطفل عليها، فما أشرت إليه في هذا المقال ليس إلا غيضٌ من فيض، لذلك فإن اطلاعك على جزء توسعة الإدراك من برنامج الكورت لـ دي بونو يعد دليلك التفصيلي في التطبيق السليم للبرنامج.

واعلم عزيزي القارئ أن الطفولة كنزٌ غنيمته خير وإهماله ضير، وغرس التفكير الناقد في الصغار يُثمر لنا شخصية ناجحة متوازنة موضوعية قادرة علي صنع القرارات وحل المشكلات وحسن التصرف بشكل عام، بعيدًا عن الانقياد العاطفي والتشتت والاستهواء وتطرف الرأي، قادرة على اللحاق بركب الأعالي من العلماء فتصبح كوكب نور تهدي الأمة وتأخذ بيدها من الذلة والجهل والتخلف وتُرجعها إلى مقامها: العزة والعلم والتقدم.

المصادر والمراجع


1. كتاب "مهارات التفكير الناقد: دراسة نظرية وتطبيقات عربية وعالمية: للدكتور محمد عبد السلام
2.كتاب "لنعلم أطفالنا حلاوة التفكير" لجون لانغرر، تعريب: سوسن الطباع
3.ورقة بحثية بعنوان "منهج علماؤنا في بناء المعرفة" للدكتور العلامة محمد أبو موسى
4.كتاب "المنهج والتفكير" للدكتور حاتم جاسم عزيز
5. كتاب "الفكر التربوي عند ابن خلدون وابن الأزرق" للدكتور عبد الأمير شمس الدين
6. كتاب The Montessori Method لماريا منتسوري
7. فصل "توسعة مجال الإدراك" من كتاب "برنامج الكورت لتعليم التفكير" لدي بونو، ترجمة: دينا عمر فيضي"

صورة المقال:


joseph-rosales-m0yRv0GxkV8-unsplash

قيم المقال