- سلسلة مقالات "مهارات التعليم والتعلم الذاتي"
- 1535 قراءة
7 - كيف تتذكر ما تتعلمه دون جهد؟
ويحدث أن تخرج من منزلك متوجهًا إلى عملك أو إلى جامعتك فتُفاجأ أنك قد وصلت إلى وجهتك دون أن تبذل أي جهدٍ في تذكر الطريق، تدخل بعد ذلك إلى مكان عملك أو إلى صفك الدراسي وتُفاجأ باختبارٍ في انتظارك، وهنا تحاول جاهدًا أن تتذكر ما تعرفه من معلومات لإجابة الأسئلة، ولكن يشق عليك ذلك، بعد الاختبار تسأل نفسك: كيف نجحت في الوصول إلى وجهتي، كيف سرت في هذا الطريق الطويل المتعرج دون أن أستدعي معالمه من الذاكرة؟ وكيف فشلت محاولاتي لاستدعاء معلومة بسيطة من مادةٍ كنت أتذكرها قبل ذلك بساعات؟ كيف تحكم على ذاكرتك في هذا الموقف، هل هي قوية أم ضعيفة؟
إن كنت قد واجهت مثل هذا الموقف وتود أن تعرف تفسيره فنقول لك أن هذا يحدث ويتكرر تقريبًا مع جميع البشر، وذلك لأن الذاكرة التي تمتلكها ليست وعاءً واحدًا يحتوي معارفك وتفاصيل حياتك المختلفة، بل هي أنواع ووظائف وخصائص مختلفة وهذا الاختلاف هو المسؤول عن تذكر الإنسان للمعلومات بنسب متفاوتة.
ما المقصود بالذاكرة؟
كلمة "ذاكرة" توحي إلينا بالقدرة على استرجاع الذكريات أو المعلومات أو مواقف حدثت في وقت مضى، ولكن عند دراسة الذاكرة في إطار علم الدماغ البشري نجد أن الذاكرة هي الرحلة التي تمضي فيها المعلومات والتفاصيل من لحظة إدراك الحواس لها وحتى رسوخها في ذاكرة المدى الطويل مرورًا بمراحل وأنواع أخرى من الذاكرة ثم استدعاؤها بعد ذلك إراديًا أو لا إراديًا.
أولًا: الذاكرة الحسية
الذاكرة الحسية هي المحطة الأولى في هذه الرحلة وهي أقصر أنواع الذاكرة، وهي البوابة الأولى لاستقبال المعلومات من العالم الخارجي عبر الحواس الخمس (البصر – السمع – الشم – التذوق – اللمس) وتسمح بالاحتفاظ بانطباعات عن المعلومات التي نستقبلها بعد توقف أو اختفاء ذلك المثير. والذاكرة الحسية ذاكرة قصيرة جدًا تتحلل وتتلاشى خلال فترة زمنية وجيزة جدًا تتراوح من خُمس إلى نصف الثانية في بعض الحواس، وبالرغم من قصر هذه المرحلة إلا أنها هي الأساس في تخزين المعلومات تمهيدًا لتحويلها إلى مرحلة الذاكرة قصيرة المدى.
تتميز المستقبلات الحسية بما يلي:
- السرعة الهائلة في نقل صورة العالم الخارجي.
- استقبال كميات هائلة من المدخلات الحسية بالرغم من قدرتها المحدودة في الاحتفاظ بها، فعلى سبيل المثال تحتوي العين الواحدة على 130 مليون مستقبل ضوئي، كل مستقبل يتمكن من التقاط 5 فوتون / ثانية وبالرغم من ذلك تتلاشى المعلومات الواردة إليها بعد ثلاث أو أربع ثواني.
ويحدث هذا التلاشي السريع للمثيرات الحسية بسبب عوامل الإحلال والتداخل مع المثيرات الجديدة. هذه العمليات تُجرى لاإراديًا ولا شعوريًا، والغرض من الذاكرة الحسية هو الاحتفاظ بالمعلومات فترةً كافيةً للتعرف عليها، فلكل حاسةٍ ذاكرةٌ حسية خاصة بها يختلف فيها زمن بقاء المثير عن باقي الحواس، بعد هذا الزمن يسقط المثير أو يمرر إلى الدماغ لمعالجته وتحويله إلى نوعٍ آخر من الذاكرة.
ومثال على الذاكرة البصرية أن الدماغ يتذكر الصورة التي رآها قبل لحظات على شاشة هاتفك لأقل من ثانية، ومثال على الذاكرة السمعية فإنك إذا سمعت بعض النغمات يمكن أن تدندن بها فورا بعد انتهائها، ولكن إذا طلب منك اللحن بعد دقائق قليلة لا يمكن تذكره لأنه لم ينتقل إلى الذاكرة قصيرة المدى. ومثال على الذاكرة اللمسية فإنك إذا وضعت يدك على سطح قاس ستتذكر الإحساس الذي شعرت به لثواني قليلة ثم تنساه لأنه لم ينتقل للذاكرة قصيرة المدى. سواء كنت تتعامل مع البصر أو السمع أو التذوق فتذكر أن الذكريات الحسية عابرة وأنها ليست أكثر من وميض.
ثانيًا: الذاكرة العاملة
وهي الذاكرة التي تحكم على المعلومة بمدة البقاء وسرعة استدعائها وقت الحاجة، وتكون في قشرة الفص الجبهي حيث تحدث العمليات المعرفية المعقدة، من هذه العمليات استجابة الذاكرة للمثير الحسي الخارجي، وبالتصوير عبر الرنين المغناطيسي نجد منطقة القشرة في الفص الجبهي نشطة جدًا عند إجراء مهام تتطلب الاحتفاظ بالمعلومات في الذاكرة قصيرة المدى مثل الإجابة عن سؤال: ماذا تحب أن تأكل الآن؟ كما لوحظ ان أنشطة جانبي الدماغ الأيسر والأيمن تتباين حسب النشاط، فالجانب الأيسر هو الأكثر مشاركة في الذاكرة العاملة اللفظية بينما الجانب الأيمن هو الأكثر مشاركة ونشاطًا في الذاكرة العاملة المكانية. لكن هل الذاكرة العاملة هي الذاكرة قصيرة المدى؟ يؤكد الباحثون على فرق جوهري بين الذاكرتين فيشيرون إلى أن الذاكرة العاملة تشتمل على الذاكرة قصيرة الأمد، ذلك لأن وظيفة الذاكرة قصيرة الأمد يقتصر على تخزين البيانات أما الذاكرة العاملة فتعالج هذه المعلومات وتربط فيما بينها وبين خبرات سابقة أو استنتاجات وتعيد صياغتها.
الذاكرة قصيرة المدى
هي ثاني أنواع الذاكرة ولها القدرة على الاحتفاظ بالمعلومات بكمية أصغير وأقل من الذاكرة الحسية، وتظل نشطة ومتاحة لفترة زمنية قصيرة (وأطول نسبيًا من الذاكرة الحسية). تعمل الذاكرة قصيرة المدى كحاسوب لتخزين المعلومات التي يمكن أن تحتاجها في القريب العاجل في مدة دقيقة أو دقيقتين، فالذاكرة قصيرة المدى تنحل بسرعة وقدرتها محدودة. ويعتمد طول فترة التخزين على الجهد الواعي الذي يبذله الفرد لأجل ذلك، وفي حال غياب ذلك الجهد الواعي تكون مدة الذاكرة القصيرة في حدود الثواني.
ويختلف مدى الذاكرة قصيرة المدى بين البشر بسبب عدة عوامل منها أن يكون المثير مألوفًا فذلك يعزز فرصة تذكره، وكذلك تكرار المعلومات ذهنيا يساعد على بقائها لفترة أطول.
ثالثًا: الذاكرة طويلة المدى
ثالث أنواع الذاكرة، وهي نظام لتخزين المعلومات وإدارتها واسترجاعها، وتمتاز بتعقيدها.
فإن كانت الذاكرة الحسية تومض فقط لأقل من ثانية، والذاكرة قصيرة المدى تدوم دقيقة أو دقيقتين فإن الذاكرة الطويلة المدى تحتفظ بالمعلومات لفترة تتراوح من خمس دقائق إلى ما يزيد عن عشرين عاما. وتشمل الذاكرة طويلة المدى عدة صور لاستدعاء المعلومات فأحيانا يتطلب الأمر أن نكون واعين، وأن نركز تفكيرنا لتذكر معلومات أثناء الاختبار مثًلا، وأحيانا أخرى لا يتطلب الأمر هذا التفكير الواعي مثل تذكر الطريق من البيت إلى العمل فكيف يحدث ذلك؟
يمتلك الإنسان جزءًا من الدماغ يسمى الحصين أو قرن آمون، وينقسم إلى جزئين، في كل جانب من جانبي الدماغ جزء، يعمل الحصين على معالجة المعلومات وتحضيرها للتخزين في الذاكرة طويلة الأمد عن طريق تحويلها لإشارات ورموز، وغالبًا ما تكون معالجة المعلومات وتخزينها خلال أولى مراحل النوم وفي مرحلة منه تسمى (حركة العين السريعة) وخلال مراحل النوم العميق، لذلك فإن أفضل وقت للمراجعة أيام الاختبارات هو وقت ما قبل النوم.
في الذاكرة طويلة الأمد لا تخزن المعلومات في منطقة واحدة من الدماغ، بل في مناطق مختلفة، فالمعلومات الصريحة والحقائق وما تتضمنه من معاني تخزن في مناطق ثلاث هي الحصين، والقشرة المخية الحديثة، واللوزة الدماغية. أما المعلومات الكامنة مثل المهارات التي تؤديها دون تفكير مثل مهارة ركوب الدراجة الهوائية فتخزن في المخيخ والعقد القاعدية. والعامل المؤثر هنا لتحويل أي معلومة من مناطق المعلومات الصريحة إلى مناطق المعلومات الكامنة هو تثبيت هذه المعلومات عبر الممارسة والتكرار والمراجعة.
ولكن هل للبيئة الخارجية دورٌ في عمل الذاكرة أم أن الأمر بكليته يحدث داخل دماغ الإنسان؟ تشير الدراسات إلى أن للبيئة الخارجية دورًا مؤثرًا حيث إن البيئة غير الآمنة تؤثر سلبًا على عملية استقبال المعلومات ومعالجتها، فلو أن هناك متعلمًا في بيئة دراسية يستقبل معلومات جديدة واستقبل مخه أثناء ذلك معلومات تفيد بوجود خطر أو تهديد فإن دماغ هذا المتعلم سيتوقف عن معالجة أي معلومات أخرى ويركز اهتمامه على هذه المعلومة وعلى ما تحتويه من تهديد، ففي هذه الحالة يتعرض الحصين لهرمونات الخوف التي تعوق الوظائف المعرفية وتعطل عمل الذاكرة طويلة المدى.
وختامًا نعود للسؤال الوارد في عنوان المقال:
كيف تتذكر ما تتعلمه دون جهد؟ وتلخيصًا نقول إن معلوماتك التي تريد لها أن تحضر وقتما تشاء لابد لك من بذل الجهد فور تلقيها عبر تكرارها أو إشراك أكثر من حاسة في معالجتها يمكنك أن تقرأها بصوت عال وتكتبها في الوقت نفسه مثلا. وهذه العملية إن أجريتها قبل النوم تكون قد أتحت لها الفرصة لترسخ في ذاكرتك، بعد ذلك مارس استدعاء ومراجعة هذه المعلومة بشكل مكثف يضمن لك ذلك بقاء المعلومة في الذاكرة وسرعة استدعائها وقت الحاجة، بهذه الآلية قد يصل بك الحال إلى استدعاء أكثر المعلومات تعقيدًا دون بذلِ أي جهدٍ يذكر، لأن التدريب على استدعاء المعلومة يحرر الذاكرة من العمليات المعقدة ويتحول بها إلى التلقائية مثل
هذا الصبي.
المصادر
●
What Are the Different Types of Memory?
●
Types of Memory●
Types of Memory/boundless-psychology●
The cell biology of vision● علم الدماغ التعليمي : أيمن البستنجي، إبراهيم أبو عموش
صورة المقال
susan-q-yin-Ctaj_HCqW84-unsplash
صدر من هذه السلسلة: